النبي عيسى عليه الصلاة ولسلام
* ولادة عيسى
العذراءُ مريمُ تعتكفُ (أي: تعتزل الناس للعبادة). فهي منصرفةً ألى صلاتها وتنسُّكها وخشوع وجهها لله بابتهال ودعاء! لقد اعتزلت أهلها، واتّخذت من دونهم ستراً، فلا تراها عين.
وفجأة، تضطرب نفسها الصافية، برهبةٍ وخوفٍ لم تجد لهما تفسيراً، ولاتأويلاً!. وإنها كذلك، وإذ بملاكٍ كريمٍ، في هيئة إنسان سويٍّ، يقتحم عليها خلوتها، فيكر عليا صفاء وحدتها، ويقطعها عما هي فيه من عبادة وصلاة!.
فترتاع... وتحاول الفرار بنفسها، وهي البتول الطهور!.
ويومئُ إليها الملاكُ بألاّ تخاف ولاترتاع. ويقترب منها وئيداً، فتستعيذ منه بالرحمن، وقد استطارت نفسها شعاعاً! (أي خافت خوفاً شديداً)
وهدأ روعُها بعد قليل، ولكن الحيرة عصفت بها من جديد، عندما أفصح الملاك عمَّا أرسل إليه: {.. إنّما أنا رسول ربك لأهب لكِ غُلاماً زكياً}.
- غلام؟... ياللفضيحة، والعار!.. وماذا سيقول عنها قومها، وهي الشريفة النفس، الكريمة الأصل، الطيبة الأرومة، الطاهرة أباً وأماً!؟..
ثم، أنّى يكون لها غلام وهي الناسكة المتعبدة، البتول العذراء، لاتعرف من وجوه الرجال إلاّ زوج خالتها النبي زكريَّا، وكان قد كفلها عندما كانت بعدُ صغيرةً، وبعض الأخيار الأبرار، الذين نذروا أنفسهم لله وعبادته وخدمة المؤمنين!..
وتعود إليها رباطةُ جأشها، فهي أمام رسول ربِّها إليها، فلم الارتياع؟
وتسألُ: {.. أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر؟..}
قال الملاكُ: {كذلك قال ربُّك هو عليّ هيِّن. ولنجعله آية للناس، ورحمة منا..}
وتمت كلمةُ ربك! ويختفي الملاك عن الانظار، بعد أن قام بما أمر به، {.. وكان أمراً مقضيا!}.. ويعود القلقُ والاضطرابُ يتأكّلان نفس العذراء البتول، تأكُّلاً!.
وتتصور ألسنة الناس تلوك سمعتها، وعفافها، وطهرها، وهم يقذفون بفاحش القول، وبهتان وافتراء، فينعصر قلبُها، ويغلي دماغها،.. فكيف ستُدافع عن نفسها، وتثبت للناس براءَتها؟..
وتعود إلى منزلها، وقد ضاقت عليها آفاق الدنيا بما رحُبت..
وتقبع العذراء في منزلها، لاتغادره إلاّ لماماً (أي: قليلاً).
وتجد في العبادة سلوى تخفف ماينتابُها من مقلقات الهموم، وعزاءً ينسيها ما ينمو في أحشائِها من "كلمة الله" الذي إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون!.. وهكذا تقبل مريم على عبادة ربها إقبال الغريق على خشبة الخلاص، وتستغرق في عبادتها استغراقاً ينسيها نفسها، والعالمين،.. ولكن، إلى حين!..
فها هي ذي الأيام تمر مرّ السحاب!.. وها هو ذا اليوم الموعود. فمريم تعاني آلام المخاض!.. وتفرُّ العذراء بنفسها من قريتها إلى البريّة، بعيداً عن الناس، وأعين الرقباء، وألسنة السوء.. فلعلّ الله يجعل لها من أمرها فرجاً ومخرجاً!..
ويُلجئها المخاض إلى جذع نخلة يابسة، فتضع غلاماً يتلألأ جبينه نوراً!..
وتعاودُها الوساوس والهواجس، فما العمل؟. وكيف ستُقابل قومها بهذا المولود الجديد؟.
فتتمتم بالتياع وحرقة: {.. ياليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً!} ويدركها مايدرك النفساء من وهن، بعد ان تضع..
إن جسمها الطريَّ ليذوي، كنديِّ النبت الغضِّ في لافح الهجير... فقواها في اضمحلال، ونفسُها في شتات.. وتحاول البكاء، فلا تقطر من مقلتها دمعة واحدة. إن دموعها لم تجف، ولكنها أصيبت بما يشبهُ الاحتراق.. وفجأةً، تعود إليها نفسُها عندما تسمعُ صوتاً يناديها من تحتها، بأنسٍ رقيقٍ، وحنانٍ رفيق:
- {.. ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً. وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. فكُلي واشربي، وقري عيناً!..}
وتمتد يد البتول الى النخلة، وقد كانت قبل سويعة جرداء يابسة لاتصلح إلا للنار، فإذا هي الآن مونعة مورقة، تحمل يانع الثمر، فتهزّها، فيتساقط أمامها الرطبُ(التمر في أوله)، فتأكلُ منه، وتمدُ يدها الى الماء الذي تفجر من تحتها، سلسبيلاً عذباً فتغترف منه وتشرب، وتحمدُ الله، وتشكره، مسلمةً اليه أمرها، قائلة في نفسها:
أليس هذا دليلاً على عصمتي من كل ريبة، وآية من آيات الله البينات؟..
وتحمل وليدها، ويعاودها التساؤل كالسوط يلسع منها العقل والوجدان، فيهتز خاطرها اهتزازاً عنيفاً،..
- كيف ستقابلين قومك بهذا المولود العجيب الولادة حقاً؟.. وهل هم من البساطة لدرجة تصديق دعواك بالسهولة المتوخاة؟
وهل في الدنيا كلها، من قبل ومن بعد، أمٌ دون زوج، وولد دون أب؟
ولكن الله تعالى كفاها مؤونة الجواب: فما عليها إلا أن تلوذ بالصمت، وفاء بنذر صيام عن الكلام:
- {.. فإما ترين من البشر أحداً فقُولي: إني نذرتُ للرحمن صوماً فلن أُكلِّم اليوم إنسيَّاً!}.
واطمأنت إلى هذا الموقف بعض اطمئنانٍ، وارتاحت إليه راحةً يسيرةً.
* المعجزة
{فأتت به قومها تحمله..} متعثرة الخُطى، مضطربة، وجبينها الطهور يندى عرقاً بارداً، فالخطبُ جلل!.. ورماها قومُها بنظرات استهجانٍ واستغراب، وصاحوا مندهشين:
- ماهذا يامريم؟.. لقد جئت شيئاً فريّاً، وأنت الطاهرة المطهرة أصولاً وفروعاً!..
وكاد لسانها يتحركُ، ليدفع عنها تهمة السوء، وفرية الفحشاء. ولكنها استدركت ذلك، فهي صائمة عن الكلام، لا تلكمُ إنسيّا!
وبالتالي، فهي ليست على استعداد للخوض في نقاش وجدل، لايجلبان لها نفعاً، ولايدفعان عنها ضراً!. فأشارت إلى الوليد في مهده. يلفه قِماط، وكأنها تقول لهم: اسألوه!.
فجحظت عيونهم، وتساؤلوا ساخرين: {.. كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟}
وتقع المعجزة:..
فإذا بالوليد ينطق في مهده، ولكنه لايدفع عن امه تهمة، ولا يثبت لها براءة، ولايرد عليهم سوء مقال، بل يخبرهم بلسان طلق مبين، بأنه من عباد الله المكرمين، وأنبيائه المجتبين، ورسله المباركين، أوصاه الله بالصلاة وبالزكاة، وببر أمه الصديقة الطاهرة.
قال: {إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركاً اين ماكنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا. وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً. والسلام عليّ يوم ولدت، ويوم أموت ويوم أُبعثُ حيَّا!..}
فحق عليهم القولُ، ولزمتهم الحجة البالغة، والبرهان الدامغ، يدحضان (أي: يدفعان ويبطلان) كل بهتان، ويصفعان كل اجتراء!..
ولكن،.. هل آمنوا وصدَّقوا؟..
ويأتي الجواب بالنفي، بطبيعة الحال - فبنوا إسرائيل طبعوا على اللجاج والسفاهة، والمكابرة والعناد. لاتقنعهم الحجة، مهما بلغت من إعجاز لايكون إلاّ سماوياً!..
أولم يلاق موسى، من قبل، كل مكابرة منهم، وتعنت وضلال؟..
فلم يؤمنوا بإعجاز هذا الوليد الذي أنطقهُ الله في المهد، ولما يرتو من لبن أمه، بعد، كما أنهم لم يؤمنوا بطهارة أمه الصديقة البتول، فانطلقت السنتهم ببهتان وافتراء، وسوء قيل وقال!..
*النبوّة
وشبَّ عيسى، كما يشب بقية الفتيان، ولكن مخايل النجابة، وسيماء الكرامة (أي: مظاهرها ودلائلها) بدتا عليه، فظهر مهاباً!..
وكان أثناء لعبه مع أترابه، ومخالطته إيّاهم، يحدثهم بما لا تقوى على فهمه عقولهم، وينبئهم بما يأكلون، ومايدّخرون في بيوتهم.
وعندما كان يجلس أمام استاذه في الكتّاب، كان يلحظ كل شاردة وواردة، ويحفظ كل حاضرة وغائبة. فيجد فيه استاذه فتى خارقاً!..
وعندما بلغ الثانية عشرة من سنيّه، صحبته أمّه الى بيت المقدس، حيث استهوته مجالس العلم والعلماء. فكان يحرص على شهودها حرصاً شديداً، مصغياً، متأملاً، مفكّراً... ثم مناقضاً وكأنه يغترف العلم، من البحر، اغترافاً!.. فكان يرد على أحبار اليهود مسفّهاً ما كانوا يعلّمونه عامّة الناس من زخرف القول وزوره، ومبهرج الكلام وباطله، اللذين يخفيان خلفهما ضلالاً كبيراً، وغيّاً عظيماً.. فيقارعهم، ويحجهم،.. فيصمتون مبهورين، وقد علت وجوههم علائم الانكسار..
ويتطلع الناس إليه،... وإليهم، مستغربين!. فيالهذا الفتى في حكمة أجلاء الشيوخ وعلمائهم الأفذاذ!.. وكثيراً ما كان ينسى عيسى كل ماحوله، حتى نفسه، ينساها، فهو في حجاج، مع هؤلاء الاحبار، مستمر، قلّما يهدأ، أو ينقطع، حتى أنه نغص عليهم مجالسهم، فكادوا أن يعافوها!.. وتمضي عليه، وهو في هذا الحال، أيام كثيرة، وشهور..
وتفتقده أمه في كل مكان فلا تعثر له على أثر. فيجن صوابها!..
وبينما هي كذلك، وإذ بابنها بين زمرة علماء، علت صدورهم لحىً كثّة بيضاءُ بيضاء، وهو يناقشهم، بصوت يشيع فيه صادق البرهان، وساطع الحجة والبيان،.. وقد اصفرت منهم وجه. واحمرت عيون، فتخاف عليه سوء العواقب، وتحذر عليه يداً أثيمة تناله بسوء... فتضمه اليها، وتعود به إلى "الناصرة"، مدارج طفولته، وملاعب صباه، بعيداً عن مكامن الخطر والأذى، والعثرات!..
ولما بلغ عيسى الثلاثين من سنّيه المباركة، صدع بأمر الله عزوجلّ، معلناً نبوّته في بني اسرائيل... مفنّداً (أي: مظهراً باطل..) ماهم عليه من كفرٍ وضلال، داعياً إياهم إلى العودة الى الأصول الأولى، والينابيع الصافية، في مصادرها.. والى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
وأخذ يُبيّن لعامة الشعب ماقام به كبار أحبارهم من تزييف لشريعة موسى السمحاء، وتحريف لها. ابتعاء عرض الحياة الدنيا، وتهافتاً على الذهب يكنزونه في خزائنهم، دون أن يعطوا فقراء خلق الله منه شيئاً، بل يسلبون منهم الدينار والدرهم باسم الدين، وخدمة الهيكل!.
وجنّ جنون أحبار بني اسرائيل!.. فما لهذا المبعوث يرميهم بكل فضيحة ونقيصة تقصمان (أي: تقطعان) الظهور؟.. واجمعوا على تكذيبه، ومناوأته.. وألبوا عليه أوغادهم وجهالهم، فما استطاعوا أن ينالوا منه، ويحطوا من شأنه،.. بل كان الأمر على النقيض من ذلك، فلقد ازداد سموّاً وعلوّاً وتحلّق حوله أشياع وأتباع، وتلامذةٌ ومريدون.
* آيات ومعجزات
ويطالب أحبار بني إسرائيل عيسى بالآيات والمعجزات، فلكل نبي أياته ومعجزاته وبيّناته!.. وينهض عيسى لما يطلبون:
- فكان يخبرهم بما يأكلون، ومايدّخرون..
- وكان يصنع لهم من الطين كهيئة الطير، (تمثال طير من طين)، ثم ينفخ فيه،.. فإذا به طائر، من لحم ودم، يطير، محلقاً في الأجواء!..
- وكانوا يأتونه بالرجل منهم، يكون أعمى منذ ولادته، فيمسح على عينيه، فيرتد بصيراً...
- وبالأبرص قد شوّه البرص وجهه، فيمسح على وجهه، فإذا به وسيمُ الوجه، جميل الصورة...
- وكانوا يأتون به إلى الميت، منذ ساعات، أو أيام،.. فيدعو فوق رأسه، فينهض حيّاً!..
- وكان يمشي، أمام بعضهم، أو بعض تلامذته، على الماء، وكأنه يتجول في بستان، ويعود اليهم دون ان تبتل له قدم!.
يفعل ذلك كله، أمام من حضر، مؤكداً أمام الجميع بأن ذلك بأمر الله، وباسمه،.. داعياً إيّاهم إلى الايمان برب السموات والارض، والإقلاع عن كل غيٍّ وفساد!. فآمنت به طائفة، هم حواريّو المسيح، وأنصاره، وتلامذته، وأتباعه، وسمّوه "المعلم" وأطلقوا عليه لقب "المسيح" إشارة إلى أنه كان يمسح بيده المباركة على الضرير والأبرص، كما مر، فيشفيان. وكفرت به طائفة أخرى، وقد أعمى الله البصائر منهم والأبصار، فأطلقوا عليه نعوتاً كاذباتٍ واختلقوا حوله إشاعاتٍ وافتراءاتٍ، فأثيرت حوله زوبعة من صخبٍ وضجيج.
وقضى الله بنصرة نبيّه عيسى(عليه السلام)، وردِّ كيد كل خائنٍ كفار!...
* الحواريون والمائدة
وكان اسلوب عيسى (عليه السلام) في دعوته، الاّ يستقرّ في مكان.. فأرض الله واسعة،... وفيها من خلقه من لم يسمع باسمه، فلم تصله رسالة السماء.
فكان دائماً في حل وترحال، لايهدأ في مدينة حتى يغادرها الى ثانية،.. وما أن يصلها حتى لايمكث فيها طويلاً، فيغادرها إلى قوم آخرين، وهكذا..
وكان يصحبه حواريون وتلاميذ، ارتدوا خشن الصوف، وخلقوا وراءهم الدنيا ظهرياً (أي: جعلوها وراء ظهورهم) فانطلقاو مع "معلمهم" يتصفحون صحائف الكون، والطبيعة، وخلق الله وآياته الباهرات!..أي: جعلوها وراء ظهورهم) فانطلقوا مع "معلمهم" يتصفحون صحائف الكون، والطبيعة، وخلق الله، وآياته الباهرات!..
وبينما كانوا يخلدون للراحة، بعد وعثاء السفر، في أرض قفر، جدباء، وقد أخذ الاعياء والجوع منهم مأخذاً عظيماً، تساءلوا فيما بينهم عن الطعام، ولاطعام لديهم، فتوجهوا بالسؤال إلى "معلمهم" الأكبر عيسى: فقالوا: {.. ياعيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدةً من السماء؟..}.
وظهرت على محيّا النبي الكريم، علائم استغراب، وخوف، وحذر، فأسرع يجيبهم:
- {.. إتقوا الله ان كنتم مؤمنين!} "ألم تؤمنوا بربكم، بعدما شاهدتم كل هذه المعجزات والبيّنات؟..."
- حاشا لله أن نكون من المكذبين، أو المفترين، أو الشاكّين!.
_ أخاف عليكم الفتنة واللَّجاج المؤديين إلى المكابرة والعناد، وما جزاء ذلك إلاّ خزيُ الدنيا، وعذاب الآخرة المقيم!.
- حنانيك يامعلم!.. ألم تر الينا، وقد انهكنا الجوع، وعضّنا بناب ناهشٍ؟. إننا إذ نطلب اليك ذلك فلكي نطعم منها، فنزداد إيماناً على إيمان، ويقيناً على يقين، وتسليماً على تسليم. وبذلك تشريف لنا، وتخصيص بفضل وكرامة، يفرضان علينا ثابت اليقين والإيمان، بالإضافة إلى مايُتاح لنا من فرصة لنشر الدعوة وتبليغ الرسالة، فلا العنت نبغي ولا اللجاج، ولا المكابرة والعناد، ونحن الذين آمنا، وأشهدنا الله على إيماننا، وكنت انت شهيداً ايضاً، منذ أول ماعرفناك، فعرفنا الحق، وصدقّنا دعوتك، واتّبعناك ولازلنا، وسنبقى إن شاء الله من المهتدين...
فلما تبيّن لعيسى (عليه السلام) صدقُ مقصدهم، وظهر له صحيح ماانطوت عليه دخيلتهم (أي: باطنهم، وسرهم) رفع يديه ووجهَه الى السماء قائلاً بصوت يتفطّر استعطافاً:
- "اللهمّ!.. ربّ السموات والارضين، وما بينهما،... ياباسط اليديد بالرحمة، ياموسع الخلق بالعطاء والرزق، يامن لاتغيض خزائنه، ولاتنقطع مواهبه، يامالك الملك، ياذا الجلال والاكرام: {أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا وانت خير الرازقين}.
فاستجاب الله تعالى لنبيّه دعوته، ومنحه طلبتهُ:
{قال الله إني منزلها عليكم، فمن يكفر بعد منكم فإني أُعذّبُهُ عذاباً لاأُعذبه أحداً من العالمين}.
وما لبث القوم أن سمعوا حفيف أجنحة، ورأوا مائدة تتهادى من عل، لتستقر فيما بينهم، وهي تفيض بالرزق الوفير، والخير العميم!..
وقبل أن تمتد اليها يد، دعا عيسى أن تكون رحمة لهم ونعمة، وأن يزيدهم الله من فضله...
ثم أومأ بيده اليها، وإليهم، فائلاً، كلوا، واشكروا!
فطعموا منها كفايتهم، وقاموا وقلوبهم تطفح بشراً وايماناً، وهدىً نوراً.
وسمع بذلك خلق كثير، توافدوا إلى عيسى مؤمنين، فتكاثروا، وازداد المؤمنون يماناً!.. وانتشرت رسالة عيسى، وعمّت.. فلها في كل بيت مؤيد ونصير.
وكان عيسى يعلن في كل مشهد ومحفل وناد: {يابني إسرائيل إنّي رسول الله اليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ومبشراً برسول يأتي من بعدي، اسمُهُ أحمد!..} وهكذا فدعوته تصديق بماضٍ وتبشير بمستقبل آت!..
ويجمعون، أخيراً، كيدهم ومكرهم، مقرّرين القضاء على عيسى. وليكن مايكون!
فرفعوا أمرهم الى حاكم "بيت المقدس" ملصقين بالمسيح كل تهمة شنعاء،..
وترصّدوا عيسى، فأين يكون؟. وأين المفرُّ؟
واجتهدوا في بث عيونهم وأرصادهم، وكان عيسى قد علم بمكرهم، فلم يهتدوا إليه ولم يعثروا له على أثر. وبينما كان رجال الدين يبحثون في بيت المقدس أمر عيسى، وقد استعصى، واستشرى وحيّرهم أمر اختفائه عن العيون، فاهتّموا واغتمّوا،.. وإذ بيهوذا الاسخريوطي يدخل عليهم، ويا للبشرى!.. إنّ مطّلع على كل تحرّك يقوم به هذا النبي الجديد، في ليل وفي نهار. فيصيحون فرحاً، ويهتزون طرباً، فأين الذي يكذّب كهّان الهيكل ويسفّه الأحبار؟ ويتّصلون بوالي المدينة المقدسة، فيرسل معهم جنداً لإلقاء القبض على هذا المبعوث الجديد. فلعل الفتنة تنقطع، ولعل الناس يهدأون!.
* الله يرفع عيسى اليه
وفي ليلة ليلاء، بينما كان عيسى (عليه السلام) وتلامذته مختبئين في بستان، وإذ بالجند يُداهمهم، فيفر الأتباع مولّين الأدبار. وتتحرك مشيئة الله سريعاً، على غير ما ينتظره أعداء الله، فإذا بعيسى لاتراه عين، وقد كان منذ لحظات بين أيديهم. فكأن الارض ابتلعته، أو رفعته إليها السماء!. ويساهدون رجلاً مقبلاً نحوهم، ويتأمّلونه جيّداً، إنه يشبه عيسى كثيراً، فيتصايحون:
- هذا عيسى، هذا عيسى؟..
فانقضّوا عليه، وأمسكوا بتلابيبه، ساقوه أمامهم مخفوراً.
اما الرجل، فقد أخذته المفاجأة، فما استطاع كلاماً..
وانهالت عليه حشود الجماهير تتقاذفه أمامها صاغراً ذليلاً!.
عند ذلك أخذ الرجل يصرخ بأعلى صوته: أنا لستُ عيسى، بل أنا الذي دلّكم عليه. أنا يهوذا الإسخريوطي!..
فهزئوا منه مقهقهين. ووصلوا به إلى وسط الساحة وهم يجذبونه جذباً عنيفاً، ويجرّونه جراً شديداً، بعد أن ساروا به على درب الجلجلة، زيادة منهم في العذاب الأليم، والنكال المهين.
وفي وسط الساحة، رفعوه بين الصخب والضجيج، وصلبوه، بعد أن جرّعوه كأساً من علقم، وتوّجوا رأسه بالشوك إكليلاً!..
{.. وما قتلوهُ، وماصلبوهُ، ولكنْ شُبّه لهم، وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه، مالهم به من علم إلا اتباع الظنّ، وما قتلوه يقيناً. بل رفعه الله اليه، وكان الله عزيزاً حكيماً!}.